قال: (وربما دعا المؤمن المجاب الدعوة بما يعلم الله الخيرة له في غيره). وهذا ملحظ آخر مهم وهو: هل من شرط كون الرجل ولياً لله أن يستجاب له، ويعطى ما يريد، وقد وعد الله تبارك وتعالى أولياءه: ( ولئن سألني لأعطينه )، أم أن هناك حكمة أخرى؟
فالشيخ هنا يقول: لا يشترط ذلك، فقد يدعو المؤمن المجاب الدعوة الله تعالى في أمر، والله تعالى يجعل الخيرة له في غير ما دعا.
قال: (فهو لا يجيبه إلى ما طلب، ولكن يعوضه مما هو خير له إما في الدنيا، وإما في الآخرة) إذاً: الدعاء مطلوب، وصاحبه مثاب مأجور، وطلبه عند الله تبارك وتعالى غير مردود، لكن لا يشترط أن يجاب كما رأينا في الأمثلة السابقة، فقد يدعو والله تبارك وتعالى يحول الدعاء إلى ما فيه الخير له في عاجل أمره أو في آجله.
يقول: (وقد تقدم في حديث أنس المرفوع: ( إن الله يقول: إن من عبادي من يسألني باباً من العبادة فأكفه؛ كيلا يدخله العجب ) )، هذا إذا كان في العبادة فما بالك بشيء آخر! وهذا الحديث نحتاج إلى أن نتأكد من صحته. فالعبادة أفضل ما يتقرب به إلى الله، فما خلقنا إلا لها، فقد يكون الرجل من أهل الصلاة، أو من أهل القرآن، أو من أهل الذكر، أو من أهل بر الوالدين، أو من أهل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو قائم بحق الله في هذه الأمور، لكنه لو دعا الله أن يجعله من أهل الجهاد واستجاب الله له، وكان مجاهداً، وظهر صيته في الأمة، وانتشر عنه ذلك؛ قد يدخله العجب، ويغتر بعمله، فيحبط عمله، ويفسد كله: جهاده وصلاته وكل ما عنده، فمن رحمة الله ألا ينال ذلك؛ ولو كان عبادة وطاعة لله، فإذا كان هذا فيما هو طاعة فكيف إذا دعا الله أن يعطيه مالاً، أو منصباً، أو جاهاً! وقد يعاهد الله: (( لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ ))[التوبة:75]، لكن بعد ذلك قد يكون: (( فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ ))[التوبة:76]، والعياذ بالله، فيكون البخل، ويكون التولي والإعراض.
إذاً فأنت لا تدري أين الخير لك، وقد يمنع الله تعالى حتى من العبادة والطاعة، وقد يصرف ذلك عن الإنسان؛ لخير أراده الله عز وجل له، وهذا يذكرنا بحديث محاجة آدم و موسى عليهما السلام، فإذا كان ترك الطاعة أو فعل المعصية فلا بأس أن يحتج بالقدر؛ إذا أنزلها العبد منزلة المصيبة، ولا حرج في ذلك، بل قد يؤجر عليه، فأنت إذا ذهبت مع مجموعة من إخوانك طلبة العلم فأردت أن تطلب العلم، وتحفظ القرآن، وتحفظ الحديث، وتفتي الناس، وينفع الله بك ما شاء من خلقه، فعرض لك عارض، أو انقطعت ولم تفعل ذلك، ثم بعد حين من الزمن ذكرت ذلك، فأحلت إلى القدر فقلت: قدر الله، وهذا أمر كتبه الله علي، فنقول: هذا لا حرج فيه؛ لأنه ليس احتجاجاً بالقدر على المعصية، وإنما هو احتجاج بالقدر على المصيبة، فأنت تشعر بالمصيبة، لكن لا تستشعرها قنوطاً وجزعاً، وما يدريك أنك لو أصبحت قارئاً أو عالماً لفتنت بالشهرة، وبالناس، وبالثناء، وبالتعظيم، فبقاؤك على هذه الحالة خير لك، وأحفظ لدينك، فأنت في هذا أتقى لربك، وأقرب من ذلك.
فيكون الله تعالى قد منع منك ذلك وهو خير، وهو عبادة في نظرك، ولا شك أن العلم أفضل مثلاً، وأن الله تعالى ذكر من دعاء عباد الرحمن (( وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا ))[الفرقان:74]، وأن تبعث مع العلماء وغير ذلك، لكنه حرمك هذا الخير لعلمه بمآلات الأمور.
وقد ضرب الله تبارك وتعالى المثل بذلك الرجل فقال سبحانه: (( آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ ))[الأعراف:175-176]، فهذا أسوأ ما يمكن أن تتخيله من الأمثلة، فهذه حالة مقززة للنفس، فهذا الرجل لو حرم العلم، ولو لم يؤت آيات الله، ولو بقي عابداً فلاحاً يفلح الأرض، أو طباخاً، أو بقالاً أو ما أشبه ذلك لكان خيراً له في دينه من أن يكون ممن حمل آيات الله وأصبح يشار إليه بالبنان، ثم انتكس واشترى الدنيا والعياذ بالله، وأعرض عن الآخرة.
إذاً: ففي هذه الحالة لا يغضبن إنسان، ولا يألمن ولا يحزنن أن قدر الله تعالى عليه أمراً، وصرف عنه أمراً آخر، وليفوض ذلك كله إلى الله عز وجل.
(وخرج الطبراني من حديث سالم بن أبي الجعد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن من أمتي من لو جاء أحدكم يسأله ديناراً لم يعطه، ولو سأله درهماً لم يعطه، ولو سأله فلساً لم يعطه، ولو سأل الله الجنة لأعطاه إياها، ذو طمرين لا يؤبه له، لو أقسم على الله لأبره )، قال: وخرجه غيره من حديث سالم مرسلاً، وزاد فيه: ( ولو سأل الله شيئاً من الدنيا ما أعطاه تكرمة له ) ).
يعني: أن من عباد الله من لو جاء إلى أحد الخلق وطلبه ديناراً أو درهماً أو فلساً لم يعطه، أي: أن تقول له: أنا لا أعطيك، أو ما عندي لك شيء؛ احتقاراً وازدراء، وهذا الرجل الذي يرده الناس لو سأل الله الجنة لأعطاه ذلك، ( ولو أقسم على الله لأبره )، فمنع من ذلك رحمة من الله عز وجل، ليس الأمر كما يظن بعض الناس، وإنما لله عز وجل حكم لا يعلمها خلقه، ولكن يرون آثارها، فكثير من الناس ربما رأى أثر ذلك فيما بعد، وربما لامس فائدتها، والبعض قد يخفى عليه.